الزراعة التعاقدية في تركيا: بين الوعود التنموية واختلال موازين القوة بين المزارعين والمصنعين

StockCake-Farmers Harvesting Crops_1726304607

بقم . أروى البعداني ..خبيرة اقتصادية 

في ظل مشكلة التخطيط في الإنتاج الزراعي، وارتفاع تكاليف المدخلات، واختلال التوازن بين العرض والطلب والأسعار، التي تزيد من هشاشة هذا القطاع، أصبح نموذج الزراعة التعاقدية موضوعًا متكررًا للنقاش بين المزارعين والصناعيين في تركيا في السنوات الأخيرة.

تُعد الزراعة التعاقدية (Contract Farming) نظامًا يربط المزارعين مباشرة بالمصنعين أو شركات التسويق من خلال عقود مُسبقة تحدد السعر، والكمية، والجودة، ومواعيد التسليم. وقد توسع هذا النظام في تركيا مع تصاعد طلب الصناعة الغذائية على إمدادات منتظمة وعالية الجودة، خاصة منذ التسعينيات مع تحرير الأسواق الزراعية وخصخصة كيانات كبرى مثل شركة Tekel للتبغ (FAO, 2021).

من الناحية النظرية، يُنظر إلى الزراعة التعاقدية كأداة لتقليل المخاطر التسويقية وضمان سوق مستقر وتصريف مضمون للمحاصيل. كما تُسهم في نقل التكنولوجيا والمعرفة الفنية من الشركات إلى المزارعين، وتدعم تطوير سلاسل القيمة الزراعية والصناعات الغذائية المحلية. وإذا ما نُظمت بعقود عادلة وشفافة، يمكن أن تحفز الاستثمار في البنية التحتية الريفية، وتعزز فرص التصدير، وتزيد الدخل في المناطق الزراعية المهمشة FAO. (2015). Legal Guide on Contract Farming

لكن في الواقع التركي، كشفت الدراسات الميدانية والمقابلات مع المزارعين عن مشاكل هيكلية عميقة. فكثير من العقود تُبرم بشكل أحادي الجانب، حيث يفرض المصنع أو الشركة المشترية معظم الشروط. في العديد من الحالات، لا يُحدد السعر مسبقًا، أو يُترك «وفق ظروف السوق» بعد الحصاد، ما يعرض المزارعين لخسائر كبيرة في مواسم الإنتاج الوفير حين تنخفض الأسعار. يصف بويوكادام، وهو منتج طماطم في بورصة يزرع على مساحة 100 فدان، هذا الوضع بقوله: «العقود ليست بأيدينا. الأسعار يحددونها هم. لقد أغنينا المصانع هذا العام» (Independent Türkçe, 2020).

إلى جانب ذلك، يواجه المزارعون تأجيلات طويلة في الدفع قد تمتد من 60 إلى 120 يومًا، ما يُجبرهم على الاقتراض لسد النفقات الموسمية بفوائد مرتفعة. والنتيجة أن المنتجين الصغار يراكمون ديونًا بدلًا من تراكم رأس المال، كما أوضح الباحث أولوكان محذرًا من تحولهم إلى «بروليتاريا زراعية» فاقدة للأصول والسيادة على الإنتاج. ويؤكد عزت يلديز، منتج التبغ في أوشاك، هذه المشكلة بقوله: «كنا نختار لمن نبيع، أما الآن فنحن عالقون مع الشركات» Independent Türkçe. (2020)

أما الإطار القانوني في تركيا فيعترف بوجود هذه التحديات. فالقانون الزراعي التركي (رقم 5488 لعام 2006) يذكر الزراعة التعاقدية لكنه لا يضع إطارًا تفصيليًا ملزمًا ينظم بنية العقود أو يضمن حقوق الطرف الأضعف. وفي عام 2020، أصدرت وزارة الزراعة والغابات التركية «دليل الإنتاج التعاقدي» الذي يدعو إلى كتابة عقود واضحة، وتحديد الأسعار مسبقًا، وتنظيم آلية دفع عادلة، لكن هذه الوثيقة تبقى إرشادية وغير ملزمة قانونيًا (Tarım ve Orman Bakanlığı, 2020).

في المقابل، هناك بعض النماذج الأكثر تنظيمًا، مثل عقود شركة Çaykur مع مزارعي الشاي في منطقة البحر الأسود، التي تقدم مثالًا نسبيًا على توازن أفضل، بفضل دور الشركة شبه الحكومية في تثبيت السعر وضمان الشراء. لكن في معظم القطاعات الأخرى، خاصة الطماطم والتبغ، يظل المزارع الصغير في موقع تفاوضي هش أمام مصانع قوية، ويعاني من غياب آليات التحكيم المستقل والشفافية في البنود الجزائية وشروط الجودة.

 

ضعف قدرات المزارعين واختلال موازين القوى مع المصنعين

تُعد موازين القوة غير المتكافئة بين المزارعين الصغار والمصنعين أو شركات التجميع السمة الأبرز والأكثر إشكالية في الزراعة التعاقدية، خاصة في الدول التي لا تضع إطارًا قانونيًا تفصيليًا لحماية الطرف الأضعف. ففي العلاقة بين المزارع الصغير والمصنع، نجد تفاوتًا جوهريًا في الموارد والمعلومات. المصنع يملك القدرة على التمويل، والخبرة القانونية، وتحديد المواصفات، بينما يواجه المزارع ضغوطًا مالية موسمية، محدودية في الوصول إلى أسواق بديلة، ونقصًا في المعرفة بالعقود القانونية.

مثلًا، في مناطق غرب الأناضول (إزمير، مانيسا)، تُبرم مصانع تعليب الطماطم عقودًا تحدد السعر مسبقًا، لكن المصنع يحتفظ بحق رفض الشحنة إذا لم تطابق المواصفات، دون آلية شفافة للفحص أو الطعن (FAO Turkey CPF, 2021).

أولًا: جذور التفاوت في القوة

الاختلال في القوة التفاوضية ليس ظاهرة عرضية، بل نتيجة لعوامل هيكلية:

  • حجم المشتري: المصنعون وشركات التصدير غالبًا شركات رأسمالية كبيرة، لديهم قدرات مالية وقانونية، وشبكات توزيع واسعة.
  • تجزؤ الإنتاج الزراعي: يعمل المزارعون في تركيا، مثل كثير من الدول النامية، في وحدات صغيرة. ووفقًا لـ TÜİK، فإن أكثر من 65% من الحيازات الزراعية في تركيا أصغر من 5 هكتارات.
  • الاعتماد الأحادي: في كثير من الحالات، يبيع المزارع كامل محصوله لمشتري واحد بموجب العقد.

النتيجة الاقتصادية: المشتري يستطيع فرض شروطه السعرية واللوجستية، بينما يملك المزارع بدائل محدودة جدًا.

ثانيًا: شروط الدفع كأداة قوة
  • المصنعون قد يعرضون سعرًا ثابتًا أو مضمونًا قبل الزراعة، وهي ميزة مطلوبة للمزارع.
  • لكن شروط الدفع عادةً ما تكون مؤجلة (حتى 90 يومًا بعد التسليم). هذا التأجيل يمثل «تمويلًا مجانيًا» للمشتري على حساب المزارع.
  • المزارع المحتاج للسيولة قد يضطر لقبول السعر المنخفض أو شروط الدفع المجحفة.

مثال واقعي: في منطقة إيجة (Ege Bölgesi)، تنص عقود الطماطم الصناعية غالبًا على الدفع بعد شهرين من استلام المصنع للشحنة، في حين يشتري المصنع مدخلات الإنتاج نقدًا بسعر منخفض (FAO Turkey CPF, 2021).

ثالثًا: شروط التسليم ومعايير الجودة
  • المصانع تحدد أحيانًا معايير جودة صارمة بدون شفافية كافية أو آلية تقييم مستقلة.
  • من الشائع أن يرفض المشتري جزءًا من الشحنة بسبب «عيوب» بسيطة أو يفرض خصومات دون حوار حقيقي.
  • لا توجد جهة مستقلة لتقييم جودة المحصول في معظم العقود.

الأثر الاجتماعي: شعور المزارعين بالظلم يولد توترًا اجتماعيًا في المجتمعات الزراعية، ويزيد عدم الثقة بين المنتجين والصناعيين. (FAO Legal Guide on Contract Farming, p.45-47)

رابعًا: العقوبات وأحادية التعديل

تخضع العقود عمومًا لقانون الالتزامات المدني (Türk Borçlar Kanunu)، الذي يترك للعقد حرية تحديد الشروط، دون حماية خاصة للمزارع في هذه الحالة.

  • بعض العقود تمنح المصنع الحق في فرض غرامات أو فسخ العقد من طرف واحد عند التأخير أو عدم المطابقة.
  • بالمقابل، لا تنص العقود غالبًا على عقوبات بحق المصنع إذا أخل بالتزاماته (مثل تأخير الدفع أو رفض الشراء).
  • غياب آليات تحكيم زراعي متخصص يزيد من كلفة النزاعات القضائية.( Turkish Code of Obligations)
خامسًا: أثر اجتماعي موسع – تعزيز التبعية

هذا التفاوت في موازين القوة يترك آثارًا اجتماعية عميقة:

  • المزارعون الصغار يصبحون «موردين حصريين» للمصانع، غير قادرين على تغيير المشتري دون خسارة استثماراتهم.
  • يتوسع تفاوت الدخل بين صغار المزارعين وأصحاب الحيازات الكبيرة.
  • ضعف تنظيم التعاونيات يفاقم المشكلة، حيث يظل التفاوض فرديًا وضعيفًا.

توثيق: FAO Turkey CPF (2021) تؤكد أن نقص التنظيم التعاوني في الريف التركي يقوض قدرة صغار المزارعين على التفاوض الجماعي، ويزيد تبعيتهم للمصانع.

 

سادسًا: اقتصاديات عدم التماثل في المعلومات
  • المصنعون يملكون بيانات سوق التصدير، الأسعار العالمية، وتوقعات العرض والطلب.
  • المزارع الصغير يفتقر إلى هذه المعلومات، ما يضعف قدرته التفاوضية على السعر.
  • حتى في العقود، قد لا تُدرج آليات شفافة لتحديد السعر عند التسليم.

هذا التفاوت في المعلومات هو عنصر جوهري في الاقتصاد المؤسسي الحديث، يفسر إخفاق العقود في تحقيق الإنصاف. (FAO Legal Guide, p.21)

 

الحلول القانونية الجوهرية المقترحة لتنظيم الزراعة التعاقدية في تركيا

لضمان توازن العلاقة التعاقدية بين المزارع الصغير والمصنع، ومنع استغلال العقود كأداة إخضاع، من الضروري تبني إصلاحات قانونية عملية وملزمة. بناءً على هذا التحليل، نوصي بالتركيز على ثلاثة حلول جوهرية قابلة للتطبيق ضمن التشريع التركي:

 

أولًا – تحديد الأطراف واستثناء الوسطاء

يجب أن ينص القانون بوضوح على أن أطراف عقد الزراعة التعاقدية هم حصريًا المزارع المنتج والمُصنّع الذي يشتري المحصول ويعالجه. استبعاد الوسطاء والتجار من نطاق هذه العقود ضروري لتقليل المضاربة والسمسرة التي تضر بالمزارع.
يتطلب ذلك تعريفًا قانونيًا دقيقًا للمُصنّع والتاجر، وإدخاله كنص صريح في قانون الزراعة التعاقدية التركي، لضمان وضوح العلاقة والحد من الخلافات المستقبلية.

 

ثانيًا – توفير المدخلات بسعر نقدي وخصمها لاحقًا دون فوائد

يمثل هذا البند حلًا عمليًا لمشكلة السيولة المزمنة التي يواجهها صغار المزارعين.
من خلال إلزام المشتري (المصنع) بتوفير المدخلات (بذور، أسمدة، شتلات) بالسعر النقدي في السوق، وخصم كلفتها من سعر المنتج عند الحصاد دون أي فوائد، تتم إزالة شبهة الربا المقنّع أو الفوائد الاستغلالية.
لتحقيق ذلك، ينبغي أن يتضمن القانون التركي نصًا واضحًا يُلزم كتابة هذه الآلية ضمن العقود النموذجية الرسمية، مع آليات رقابية لمنع التلاعب بالأسعار.

 

ثالثًا – استرداد الدعم من المخالفين مع غرامة

يمثل هذا الاقتراح أداة ردع قانونية قوية لضمان الالتزام بالعقود.
يجب أن يُلزم القانون التركي الأطراف التي تخل بأحكام العقد بإعادة أي دعم حكومي حصلت عليه، مع فرض غرامة مالية مناسبة.
لتحقيق أثر رادع فعلي، يجب أيضًا تحديد آلية تنفيذ واضحة وسريعة لتحصيل هذه المبالغ، عبر الأجهزة الحكومية أو القضاء، مع الحد من البيروقراطية والتأخير الذي قد يقوض فعالية الردع.

توصية تشريعية مقترحة

يمكن أن يُضمَّن قانون الزراعة التعاقدية التركي مادة جديدة على النحو الآتي:

المادة [جديدة]: تنظيم العقود ودعم المزارعين

  1. يُحصر إبرام عقود الزراعة التعاقدية بين المنتج الزراعي والمُصنّع حصريًا، ويُستثنى الوسطاء والتجار من نطاق هذه العقود.
  2. يلتزم المشتري بتوفير المدخلات الزراعية المحددة في العقد بالسعر النقدي في السوق، وتُخصم قيمتها من سعر المنتج عند التسليم، دون أي فوائد أو رسوم إضافية.
  3. في حالة مخالفة أي طرف لبنود العقد، تسترد الدولة كامل الدعم الحكومي المقدم للطرف المخالف، وتُفرض عليه غرامة مالية تحددها اللوائح التنفيذية.
  4. تُحدد الوزارة نموذجًا موحدًا للعقد يتضمن هذه الالتزامات، وتراقب تنفيذه.

إن تبني هذه الحلول القانونية والتشريعية يمثل خطوة عملية نحو بناء نموذج زراعة تعاقدية أكثر عدالة وتوازنًا في تركيا، يدعم صغار المزارعين ويعزز الأمن الغذائي المحلي، ويضمن في الوقت ذاته مصالح الصناعات الغذائية بشكل مستدام وعادل.

 

المصادر:

Scroll to Top