بقلم . أروى البعداني

قصة تأسيس ماركة BÜTÜ للحقائب

البتول: فتاة القرية التي نسجت حلمها بالخيط والإبرة

كانت البتول فتاة ريفية يتيمة الأب، تعيش مع والدتها وجدها العجوز في كوخ صغير على قمة جبل في قرية “حسان”، تحيط بهم الحقول وأشجار القطن التي يملكها الجد، وتتنفس القرية رائحة التراب والنسيم النقي.

منذ طفولتها، لم تكن كبقية الأطفال. لم تكن تركض خلف الفراشات، ولا تنغمس في ضجيج اللعب، بل كانت تلجأ إلى علّية المنزل، حيث تكدّست رزم الصوف وخيوط القطن الممشّط. كانت تفرزها حسب الألوان، تلمسها برقة، وتحدّق بها بعينين تلمعان بالشغف.

في أحد الأيام، قالت لوالدتها بصوت خجول:
ــ “أريد أن أتعلم حياكة الصوف.”

بدأت تتعلم بجد، لكن نيتها لم تكن صناعة الملابس مثل أمها. كانت ترى شيئًا مختلفًا… حلمًا يلمع في مخيلتها الصغيرة: تصميم حقائب صوفية فريدة.

في عمر الحادية عشرة، نسجت أول حقيبة بيديها النحيلتين. صنعت عدة حقائب صغيرة بأحجام وألوان مختلفة، وذهبت بها إلى سوق القرية يوم الأحد. وهناك، وقعت المفاجأة: باعت جميعها في أقل من ساعة.

كانت النساء في القرية ينبهرن بالتصميم والجودة. وفي داخل البتول، اشتعل حماس لم تعرفه من قبل.
لكن… كان هناك صوت داخلي يهمس:
موهبتك جميلة، لكنّها ليست كافية… عليكِ أن تتعلّمي أكثر، أن تخرجي من هنا.”

 حين يكون في قلبك صوت يناديك، لا تتجاهليه… قد يكون هو الطريق الذي خُلقتِ لتسلكيه.”

وذات يوم، في ظهيرة دافئة تحت شجرة التوت القريبة من الكوخ، جلست البتول تتصفح هاتفها، وهو ما لم تكن تفعله كثيرًا. وبينما تمرر الشاشة بملل، توقفت فجأة، شهقت، ثم صرخت بصوت عالٍ:
ــ “وجدتُها!!”

ركضت إلى والدتها، تقفز بين الكلمات:
ــ “أمي! أمي! وجدتها! سأذهب إلى إسطنبول!”

نظرت إليها والدتها بدهشة، وضعت يدها على جبينها:
ــ “هل أصابك شيء؟”

ــ “أنا بخير… أنا جادة. سأدرس تصميم الحقائب في إسطنبول!”

ــ “لكنكِ لم تُكملي الثانوية بعد!”

ردت البتول بحزم:
ــ “لا أريد تضييع وقتي بمناهج لا تفيدني. أريد أن أتعلم ما يصنع مستقبلي.”

💬 الجرأة لا تعني التهور، بل أن تعرفي ما تريدين… وتدافعي عنه، ولو وقفتِ وحدك.”

قبل أن تُكمل والدتها اعتراضها، جاء طرقٌ عنيف على الباب.
كانت امرأة تصرخ في الخارج:
ــ “النجدة! جدكِ سقط من فوق التل!”

ركضت البتول ووالدتها، ووجَدتا الجد ممددًا على الأرض، لا حراك فيه.
نُقل إلى المستشفى، وهناك، أخبرهم الطبيب أنه توفي إثر أزمة قلبية.

كان الجد أكثر من مجرد قريب… كان الأب، والمعلم، والداعم الأول.

مرت ثلاثة أشهر كئيبة.
وفي مساء رمادي، جلست البتول تحت شجرة التوت، تنظر إلى الأفق الصامت، تتصارع داخلها الأسئلة:
هل أدفن حلمي مع جدي؟ هل أترك والدتي وحدها؟ وكيف سأعيش في إسطنبول بلا مال؟

تنهدت وهمست:
ــ “يا الله، ماذا أفعل؟”

قطع تفكيرها صوت مألوف:
ــ “البتول! أين أنتِ؟”

كانت مروى، صديقتها، تلوّح بهاتفها وتبتسم بحماسة:
ــ “حلمك هنا! هناك دورة لتصميم الحقائب في إسطنبول، مع منحة كاملة للفتيات الريفيات!”

قفز قلب البتول من الفرح. أمسكت بيد مروى بقوة، وامتلأت عيناها بالدموع.
لكن سرعان ما خفتت ابتسامتها… وعاد الحزن إلى ملامحها.

ــ “لا أستطيع الذهاب… كيف أترك أمي؟”

جاءها صوت من خلفها، دافئًا كالشمس بعد ليلة برد:
كانت أمها، واقفة بابتسامة حنونة، وقالت:
ــ “اذهبي، يا صغيرتي. لا تدعي أحدًا يخبرك أن حلمك مستحيل.
إذا اشتعل في قلبك حلم، فهو دليل على أنكِ خُلِقتِ لتحاولي.”

اتركي أثرًا يشبهك، واعملي بيدك، بعقلك، بروحك.
كوني امرأة تعرف ماذا تريد… وتجرؤ على السعي إليه.”

شدّت البتول الرحال إلى إسطنبول مع بداية الخريف، على متن باخرة.

وصلت المدينة الكبيرة بقلبٍ صغير لكنه مملوء بالأمل. تسلّل الخوف إليها للحظة، لكنها تذكرت كلمات والدتها، فابتسمت:
هنا… سأبدأ كتابة فصلي الجديد.”
ــ “هنا سأتعلم كيف أُبدع بحق. هنا سيولد حلمي.”

في المعهد، اجتهدت. تعلمت، جرّبت، رسمت، طبّقت.
كانت تكتب أفكارها وتبتكر تصاميمها في دفتر خاص.

 الحلم لا ينضج في الراحة… بل في التجربة والسقوط والنهوض مجددًا.”

وحين عادت إلى قريتها بعد أشهر، لم تعد كما كانت.
كانت أكثر وعيًا، أكثر طموحًا، تحمل في قلبها شغفًا لا يخبو.

ذات مساء، سمعت والدتها أصواتًا في العليّة. ظنّت أن لصًا يسرق محصول القطن.
صعدت ببطء، تحمل مصباحًا وعصا، لكنها وجدت مفاجأة.

البتول كانت هناك، قد أفرغت المكان، وجهّزته كورشة.
ــ “أين محصول القطن؟!”

قفزت البتول إلى حضنها:
ــ “سامحيني يا أمي… بعته للعم راكان. احتجت المال لأحوّل العليّة إلى ورشة.”

ابتسمت الأم، وقالت:
ــ “آه منكِ يا ابنتي… أنتِ فتاة خارقة.”

اشترت ماكينة خياطة، واستخرجت دفاترها من إسطنبول،
وبدأت تنتج حقائب بخامات فاخرة وألوان مستوحاة من الطبيعة.

كانت تذهب إلى السوق كل أسبوع، تفرد حقائبها على طاولة خشبية بابتسامة واثقة،
لكن سرعان ما واجهت أول خيبة:
الناس يحبون التصاميم… لكن لا أحد يشتري.

في كل مساء، كانت تجلس في الورشة، تحسب التكاليف،
وتسأل نفسها:
ــ “هل أخطأت؟ هل حلمي أكبر من واقع قريتي؟”

جاءت مروى، جلست إلى جوارها، وقالت:
ــ “البتول… هذه الحقائب لا تنتمي هنا. افتحي متجرًا إلكترونيًا.
اتركي الناس في المدن يرون ما تصنعين.”

رفعت البتول رأسها، بعينين تلمعان بالأمل:
ــ “متجر إلكتروني… نعم! سأبيع حلمي للعالم كله!”

الحلم الذي يصمد بعد أول فشل… هو الحلم الحقيقي.”

وهكذا، انطلقت البتول نحو فصلها الجديد، أكثر نضجًا، أكثر شجاعة.

من علّية الكوخ… إلى العالم

وهكذا، لم يكن المتجر الإلكتروني مجرد موقع عادي…
بل كان نافذةً مفتوحةً على العالم.
أطلقت البتول أول مجموعة إلكترونية من حقائب BÜTÜ تحت اسم: جذور، وكانت مستوحاة من عناصر الطبيعة الريفية – ألوان القطن، ملمس الصوف، ونقوش الجدّات المطرّزة.

في البداية، لم تعرف شيئًا عن التسويق الرقمي.
لكنها كانت تتعلّم بكل شغف، تقرأ، تشاهد، تسأل.
بدأت بمقاطع قصيرة تشرح فيها قصص الحقائب، كيف صُممت، ولماذا خيطت بهذا الشكل.

الناس لا يشترون المنتج فقط… بل يشترون القصة التي يحملها.”

عبر مواقع التواصل، بدأت قصتها تنتشر.
فتيات من المدينة، نساء من دول مختلفة، علّقن على الحقائب، طلبنها، دعمن المشروع.
وبدأت الطلبات تتضاعف.

أول ورشة كانت عليّة الكوخ…
ثم استعانت بغرفة إضافية.
ثم استأجرت مكانًا صغيرًا في مركز القرية، ودرّبت خمس نساء من الجوار على الحياكة.
كانت تؤمن أن الحلم إن لم يتّسع للآخرين، يبقى صغيرًا.

بعد عامين، حصلت على تمويل بسيط من برنامج لدعم الرياديات الريفيات.
طوّرت التغليف، أنشأت هوية بصرية للماركة،
وأطلقت مجموعتها الثانية: أثر، مستوحاة من بصمات النساء اللواتي دعمنها.

ريادة الأعمال ليست فقط عن الربح… بل عن الأثر.”

دعيت لاحقًا إلى معرض للمنتجات الحرفية في إسطنبول، وهناك، لفتت حقائبها أنظار المشترين الأجانب.
وقّعت أول عقد تصدير إلى متجر NANA في أمستردام.
ثم إلى باريس…..  ثم بدأت BÜTÜ تظهر في صفحات مجلات التصميم المستقل حول العالم.

كبر الفريق. أنشأت ورشة مركزية صغيرة، درّبت فيها شابات من قريتها والقرى المجاورة.
أنشأت نظامًا يضمن الجودة، التوصيل، والتسويق.
أنشأت أكاديمية مصغّرة عبر الإنترنت، تعلم فيها أساسيات الحياكة والتصميم.

الحلم لا يتحقق عندما تنجحين فقط… بل عندما تخلقين فرص نجاح لغيرك.”

وفي العام الخامس، أطلقت البتول مجموعتها الأكثر مبيعًا: عودة إلى التلة –
حقائب مصنوعة من قماش قطني طبيعي من قريتها، مصبوغة بألوان طبيعية، وتحمل قصة حقيقية في كل تصميم.

حظيت المجموعة بتغطية من مجلات عالمية … ثم تم اختيار ماركة BÜTÜ ضمن قائمة أفضل عشر علامات نسائية صاعدة في الشرق الأوسط.

واليوم، تُباع حقائب BÜTÜ في أكثر من 12 دولة، وتشارك في أسابيع الموضة المستقلة حول العالم.
لكنها ما زالت تُصنع بخيوط دافئة… في أماكن تشبه روح البتول.

ولما سُئلت ذات يوم:
ــ “ما سرّ نجاحك؟”
أجابت بابتسامة:

أن تصنعي شيئًا بيديك، من قلبك، لامرأة في مكانٍ ما من هذا العالم… هذا هو السر الحقيقي.”

دروس ريادية من قصة البتول وماركة BÜTÜ”

البداية لا تُحدد النتيجة

⟶ لا يهم إن بدأتِ من عليّة كوخ أو من قبو صغير… المهم أن يكون لديك حلم واضح.”

  • بدأت البتول بدون شهادة، بدون رأس مال، فقط بموهبة، رغبة، و3 حقائب صوفية.
  • لم تنتظر الظروف لتصبح مثالية… بل خلقت فرصتها من الموارد المتوفرة.

التعلم الذاتي مفتاح التمكين

⟶ إذا لم تجدي طريقًا لتعلم ما تحبين… اصنعي طريقك الخاص.”

  • رفضت التعليم التقليدي لأنه لا يخدم حلمها.
  • التحقت بدورة متخصصة، وسعت لتعلّم التسويق الرقمي، الإدارة، التغليف، والتصدير… بنفسها.

الريادة ليست وحدة… بل شراكات

⟶ كل سيدة تنجح لوحدها… يمكن أن تنجح مرتين إذا مدت يدها لأخريات.”

  • وظفت نساء من قريتها ودربتهن، وخلقت بيئة دعم متبادل.
  • لم تحتكر النجاح، بل وزّعته عبر بناء فريق محلي يؤمن بالفكرة.

الرؤية أهم من المنتج

⟶ المنتج وحده لا يبيع… القصة، الهوية، والمغزى هم ما يميّز العلامة.”

  • بنت ماركة تحمل رسالة: العودة للجذور، تمكين النساء، والاحتفاء بالتراث.
  • كل حقيبة كانت تحمل قصة… وكل تصميم امتداد لذاكرتها الشخصية.

التكنولوجيا بوابة التوسع

⟶ قرية صغيرة + متجر إلكتروني = مشروع عالمي.”

  • استخدام التجارة الإلكترونية مكّنها من الوصول إلى جمهور عالمي دون متجر مادي.
  • فعّلت التسويق عبر السوشيال ميديا + قصص المنتجات + توصيل بسيط = نمو سريع.

التوسّع الذكي لا يعني التسرّع

⟶ التدرّج سرّ النجاح المستدام.”

  • بدأت بإنتاج يدوي محدود.
  • ثم ورشة منزلية.
  • ثم مكان إنتاج بسيط.
  • ثم عقود تصدير خارجية.
  • ثم مدرسة صغيرة لتعليم المهنة.

العلامة التجارية الناجحة تترك أثرًا، لا مجرد منتج

⟶ ما يبقى في ذهن الناس ليس الحقيبة… بل الإحساس الذي جاءت به.”

  • BÜTÜ اليوم اسم عالمي… لكنه ما زال يُخاط بخيط ريفي دافئ.
  • تحوّلت القصة من مجرد تصميم إلى حركة فكرية لتمكين النساء بالمجتمعات الهامشية.

“لا تدعي الظروف تُقصي حلمك… بل اجعلي حلمك هو من يُعيد تشكيل الظروف.”

Scroll to Top