تحليل شامل للتضخم في تركيا 2025: لماذا لا يزال تضخم بلا كوابح رغم رفع الفائدة؟
بقلم . أروى البعداني – خبيرة اقتصادية
رغم مرور ما يقارب عامين على بدء التحول في السياسة النقدية بتركيا، لا يزال التضخم يحافظ على مستوياته المرتفعة، ما يثير تساؤلات عميقة حول أسباب التضخم في تركيا ومدى فعالية الأدوات المستخدمة في احتواء الأسعار واستعادة الاستقرار الكلي.
مسار التضخم: من الانفلات إلى التباطؤ الحذر
سجل الاقتصاد التركي واحدة من أعلى موجات التضخم في تاريخه الحديث، إذ بلغ معدل التضخم السنوي ذروته في مايو 2024 متجاوزًا 75%، مدفوعًا بتراكمات ممتدة من التوسع النقدي، وتراجع قيمة الليرة التركية، وارتفاع حاد في تكاليف الاستيراد والسلع الأساسية.
ومع نهاية العام، بدأ التضخم في التراجع تدريجيًا مع تشديد السياسة النقدية، ليسجل 42.12% في يناير 2025، و38.1% في مارس، وفقًا لبيانات معهد الإحصاء التركي (TÜİK).
أسعار الفائدة والسياسة النقدية: مسار تصحيحي متأخر
منذ منتصف 2023، اعتمد البنك المركزي التركي (TCMB) سياسة رفع تدريجي لسعر الفائدة الأساسي، حيث ارتفع من 8.5% إلى 46% بحلول أبريل 2025. ورغم أن هذه الخطوة تمثل تحولا جذريًا مقارنة بسنوات التيسير النقدي، إلا أن أثرها على التضخم كان محدودًا حتى الآن، ما يعكس هشاشة هيكل الأسعار في تركيا، والاعتماد المرتفع على التمويل المحلي، وارتفاع تكاليف الواردات، إلى جانب توقعات تضخمية متجذرة في سلوك السوق.
تضارب التوقعات الدولية: قراءة في المستقبل القريب
تباينت تقديرات المؤسسات الدولية لمعدل التضخم التركي بنهاية 2025:
-
البنك المركزي التركي: 24%
-
صندوق النقد الدولي (IMF): 35.9%
-
منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD): 31.4% (مع استقرار متوقع عند 17% في 2026)
هذا التباين يعكس بوضوح حجم عدم اليقين في الاقتصاد التركي، وصعوبة ضبط الأسعار في ظل تشوهات هيكلية وسلوكيات سوق يصعب التنبؤ بها.
حلقة الأجور والأسعار: تضخم من الداخل
الزيادات المتتالية في الحد الأدنى للأجور – والتي بلغت 22,104 ليرة في يناير 2025 – ساهمت في دعم القوة الشرائية لكنها في الوقت ذاته غذّت حلقة تضخمية يصعب كسرها. إذ إن كل رفع للأجور يقود إلى ارتفاع في تكلفة الإنتاج وبالتالي إلى زيادات لاحقة في الأسعار. غياب برامج موازية لتحفيز الإنتاجية أو دعم الاستثمار الإنتاجي يجعل من هذه الحلقة واحدة من أهم أسباب التضخم في تركيا.
نحو رؤية أكثر تماسكًا للسياسات الاقتصادية التركية
رغم التحسن النسبي في بعض المؤشرات، فإن الطريق إلى السيطرة على التضخم طويل ويستلزم:
-
سياسة نقدية حازمة ومتوازنة تتجنب إرباك الاقتصاد الحقيقي
-
إصلاحات هيكلية تقلل من الاعتماد على الاستيراد
-
إدارة توقعات السوق عبر خطاب اقتصادي واضح ومستقر
-
سياسات مالية رشيدة تحجم العجز دون إعاقة النمو
ما المختلف في التضخم التركي؟ ولماذا يُعد نموذجًا معقدًا؟
التجربة التركية في مواجهة التضخم تختلف عن نماذج الاقتصادات الصاعدة الأخرى، إذ تتداخل فيها عوامل هيكلية، وسياسية، ونفسية بشكل يصعّب من إمكانية الضبط السريع. من أبرز سمات هذا النموذج المعقد:
-
اعتماد الإنتاج على الواردات، ما يضخم أثر تقلبات الليرة على الأسعار
-
ضعف استقلالية البنك المركزي نتيجة التدخلات السياسية
-
سلوك تضخمي نفسي للمستهلكين والمستثمرين يسرّع من دوران النقد
-
سياسات الأجور التوسعية التي تزيد من تكاليف الإنتاج دون مكاسب في الإنتاجية
-
فجوة الإدراك بين الأرقام الرسمية والتضخم المُعاش فعليًا، ما يضعف ثقة الجمهور ويقلل من فعالية السياسات
لذلك، لا يمكن معالجة التضخم التركي باستخدام أدوات تقليدية منعزلة، بل ينبغي اعتماد مقاربة شمولية تأخذ بعين الاعتبار البُعد السلوكي والمؤسسي إلى جانب الجوانب المالية والنقدية.
تركيا بين الحاجة إلى المصداقية والواقع التضخمي القاسي
يقف الاقتصاد التركي عند مفترق طرق حاسم. فخفض التضخم يتطلب ما هو أبعد من رفع الفائدة؛ إنه رهـان على تنسيق السياسات الاقتصادية، واستعادة المصداقية المؤسسية، وتحفيز النمو الحقيقي. إن فهم تعقيدات التضخم في تركيا ليس فقط مفتاحًا لحلول فعالة، بل نموذجًا تسترشد به اقتصادات أخرى تمر بظروف مشابهة.
كيف تتعامل سيدات الأعمال مع التضخم التركي؟ رؤية استراتيجية للمستثمرات والرياديات
في بيئة تتسم بعدم اليقين وتذبذب التكاليف كما هو الحال مع التضخم التركي الحالي، تواجه سيدات الأعمال والرياديات تحديات مضاعفة، خاصة ممن يدِرن مشاريع صغيرة أو متوسطة تعتمد على تمويل محدود أو سلسلة إمداد محلية متأثرة بالتضخم.
وفقًا لخبراء الاقتصاد والإدارة الاستراتيجية، إليك 5 ممارسات جوهرية للتكيف:
-
إعادة تسعير مرن واستباقي:
لا بد من تطوير نماذج تسعير ديناميكية تأخذ بالحسبان تغيرات التكاليف والعملة. التسعير الثابت في سوق متقلّب هو مخاطرة، بينما التسعير المرحلي أو القائم على مؤشرات تكلفة يوفر حماية جزئية لهوامش الربح.
-
تنويع الموردين وتقليل الاعتماد على المستوردات:
الرياديات اللواتي يعتمدن على مدخلات مستوردة يجب أن يبحثن عن بدائل محلية أو يصممن خطوط إنتاج مرنة تتكيف مع تنوع مصادر المواد الخام، مما يخفف الأثر المباشر لتذبذب العملة والتضخم المستورد.
-
تحصين السيولة النقدية والاستثمار في الأصول الحقيقية:
من المهم تعزيز احتياطي السيولة لتجاوز فترات التضخم المرتفع. كما يُنصح بتحويل جزء من الأرباح إلى أصول غير نقدية أكثر أمانًا نسبيًا (مثل العقار أو المعدات)، مما يساعد على حماية القيمة الحقيقية لرأس المال.
-
الاستثمار في التحول الرقمي لتقليل التكاليف الثابتة:
تقنيات الأتمتة والحوسبة السحابية والتجارة الإلكترونية يمكن أن تقلل من التكاليف الإدارية والتشغيلية، وتمنح الريادية مزايا تنافسية في التسعير والمرونة.
-
التحوّط الاستراتيجي والتخطيط بالسيناريوهات:
الرياديات في تركيا بحاجة إلى تبنّي أدوات تخطيط متقدمة، مثل نماذج السيناريوهات التي تأخذ بالحسبان تدهورًا أو تحسنًا مفاجئًا في المؤشرات. كذلك، يُوصى بتأمين بعض العقود بالليرة أو ربطها بمؤشرات التضخم لضمان توازن الأرباح.