القوة الهادئة: لماذا تحتاج ريادة الأعمال إلى البصمة الأنثوية؟

بقلم. أروى البعداني 

مقدمة: صحوة ريادية جديدة

في عالم الأعمال المتسارع الذي يضجّ بالتحديات المعقدة، لم تعد نماذج القيادة التقليدية كافية لمواجهة تعقيدات العصر. هنا تبرز الحاجة الملحة إلى نموذج جديد، إلى بصمة مختلفة، إلى “قوة هادئة” تقدم رؤىً وحلولًا استثنائية. إنها البصمة الأنثوية التي تزخر بها ريادة الأعمال المعاصرة، لا كبديل للنموذج الذكوري، ولكن كمُكمِّل ضروري يوازن المعادلة ويُثري المشهد.

لطالما سيطرت الصورة النمطية لرائد الأعمال الناجح على الخيال الجمعي: شخصية عدوانية، تنافسية بشراسة، تعمل بلا توقف، وتضع الربح فوق كل اعتبار. لكن الدراسات الحديثة وخبرات كبار الخبراء تؤكد أن نماذج النجاح الأكثر استدامة وتأثيرًا اليوم تحمل سمات مختلفة جوهريًا: التعاون، والتوازن، والمرونة، والشمولية—وهي سمات تتقاطع بشكل لافت مع ما يُعرف بالبصمة الأنثوية.

القوة الهادئة ليست صمتًا بلا أثر، ولا انقيادًا للخلفية؛ هي قدرة قيادية صامتة وفعّالة تستند إلى عمق داخلي: قدرة على الإصغاء، على الإدراك الاستراتيجي، وعلى بناء علاقات ثقة طويلة الأمد. هذه القوة تعمل ببطء ظاهري لكنها تُنتِج تأثيرًا مستدامًا، لأنها تُحرّك من داخل منظومة القيم والوعي وليس من حاجات الظهور أو الهيمنة. هذا المفهوم تعززه أعمال بحثية وممارسات قيادية مثل «القيادة الهادئة» التي تركز على تحسين تفكير الآخرين بدل توجيههم مباشرة، ومبادئ «presencing» التي تضع الانتباه والإنصات كأساس للإدراك الاستراتيجي.


مظاهر القوة الهادئة: خريطة طريق للقائدات

هذه القوة ليست مجرد فكرة نظرية، بل تتجسد في سلوكيات قيادية عملية تُحدث فارقًا حقيقيًا. إليك كيف يمكن للقائدات تفعيلها كخريطة طريق:

  1. الإصغاء العميق وتمكين الآخرين (Deep Listening & Empowerment)

الإصغاء العميق يتخطى مجرد سماع الكلمات، فهو إنصاف لمساحات التفكير لدى الآخرين، وطرح أسئلة تُحرِّك الإدراك، وإتاحة المساحة للآخرين ليُفكّروا ويُبدعوا. القائدة ذات القوة الهادئة لا تملأ الفراغ دائمًا؛ بل تخلق الفراغ ليُولد من خلاله حلّ أفضل.

  • لماذا مهم؟
    • يُحوّل الفريق من مُنفِّذ لأوامر إلى شريك فاعل في صنع القرار.
    • يُقوّي حسّ الملكية لدى الموظفين، فيرتفع الالتزام والإنتاجية.
    • يَكشف عن حلول عملية مخفية قد لا تظهر في الاجتماعات التقليدية.
  • خطوات تطبيقية:
    • ابدئي بطقوس أسبوعية للانقطاع (quiet time): خصصي 60 دقيقة للتفكير غير المقاطَع قبل الاجتماعات الاستراتيجية.
    • اعتمدي أسلوب السؤال التمكيني: اطرحي 3 أسئلة قبل اتخاذ القرار: “ما الهدف؟”، “ما المخاطر؟”، “كيف يتوافق هذا مع قيمنا؟”.
    • طبّقي جلسات “التفكير الصامت”: قبل الاجتماعات الكبيرة، امنحي الفريق وقتًا للكتابة والتأمل لضمان سماع صوت الباطن وليس صوت الاندفاع.
  1. الحسّ الاستراتيجي وقراءة السياق (Strategic Sensing & Contextual Insight)

هذا المظهر يعني القدرة على «رصد» الإشارات الضعيفة في البيئة: تغيّر سلوك العملاء، تحوّل ثقافي في السوق، نقاط فشل مبكرة في سلسلة القيمة. بعد ذلك، يتم تحويل تلك الإشارات إلى رؤى استراتيجية مدروسة. يقول الخبير Otto Scharmer إن هذه القدرة هي «sensing» و«presencing»، أي قراءة المستقبل المتبلور والعمل منه.

  • لماذا مهم؟
    • في عالم سريع التغيّر، التنظيم الذي يتمكّن من التقاط الإشارات المبكرة ويستشرف المستقبل يتجنّب الأخطار ويخلق فرصًا جديدة.
    • البصمة الأنثوية هنا تعني الجمع بين حدسٍ مبني على علاقة بالمجتمع وبين أدوات تحليل متينة.
  • خطوات تطبيقية:
    • ابني نظامًا لرصد الإشارات الضعيفة: أنشئي لوحة قيادة بسيطة تجمع مؤشراتٍ كمية (بيانات المبيعات) ونوعية (تعليقات العملاء، الملاحظات الميدانية).
    • اجعلي جزءًا من روتينك الأسبوعي “وقت رصد”: خصصي وقتًا لقراءة تعليقات العملاء، أو القيام بلقاءات ميدانية قصيرة، أو متابعة مؤشرات اجتماعية.
  1. رصيد العلاقات وبناء الثقة (Relational Capital & Trust-Building)

يُقصد به بناء شبكة من العلاقات القائمة على الثقة المتبادلة، حيث تكون الوعود موثوقة، والمساءلة حاضرة، والسرّية محفوظة. تؤكد الخبيرة Brené Brown أن القادة الذين يبنون ثقة حقيقية يخلقون ثقافة عمل قادرة على المخاطرة الذكية والابتكار.

  • لماذا مهم؟
    • الثقة هي وقود سرعة التنفيذ في وقت الأزمات؛ فالفرق ذات الثقة العالية تتخذ قرارات أسرع وأكثر جودة.
    • بيئة مبنية على الثقة تُولّد «الأمان النفسي» الذي دفعته أبحاث Amy Edmondson كعامل حاسم لأداء فريق عالي الجودة.
  • خطوات تطبيقية:
    • قيّمي ثقافة الثقة شهريًا: استخدمي أداة مقياس بسيط (مثل BRAVING checklist) مع الفريق.
    • اعترفي بالأخطاء فورًا: عمّمي الدروس المستفادة بدل إخفاء الفشل، مما يعزز الشفافية والثقة.
    • وفّري مساحات آمنة للتجريب: أنشئي “مناطق اختبار” (pilot zones) حتى يجرب الفريق أفكارًا جديدة دون خوف من فقدان الوظيفة.
لماذا تحتاج ريادة الأعمال اليوم إلى هذه البصمة؟

في عالم الأعمال الحديث، لم يعد النجاح يعتمد فقط على السرعة أو التركيز على الأرقام المالية قصيرة المدى. بل أصبح من الضروري وجود بصمة أنثوية متوازنة وعميقة، تتمثل في القوة الهادئة، والطاقة الواعية، والقيادة بالقيم.

  1. بيئة الأعمال المعقدة والمترابطة

الأسواق اليوم ليست مجرد معاملات مالية، بل هي شبكات مترابطة من علاقات العمل، العملاء، والمجتمعات. وفق تقرير Harvard Business Review، الشركات التي تجمع بين القيم والحدس الاستراتيجي تحقق أداءً مستدامًا أعلى بنسبة 30–40% من الشركات التي تعتمد فقط على القرارات السريعة.

  1. البحث عن الاستدامة وليس النتائج المؤقتة

وفق دراسة من McKinsey & Company حول أثر التنوع في بيئات الأعمال، الشركات التي تتبنى قيادات متوازنة (تجمع بين القوة الذكورية والحدس الأنثوي) لا تحقق أرباحًا أعلى فقط، بل تحافظ على استدامة أعمالها على المدى الطويل. القائدة ذات البصمة الأنثوية تُعطي أهمية لثقافة العمل وأخلاقياته، وتتبنى تفكيرًا طويل المدى، وتضع أهدافًا تتوافق مع المسؤولية الاجتماعية والبيئية.

  1. تعزيز الإبداع والابتكار

الريادة اليوم تتطلب حلولًا مبتكرة لمشاكل معقدة، والابتكار لا يولد إلا في بيئة آمنة ومتوازنة، حيث يشعر الفريق بالثقة والحرية للتعبير. خبراء القيادة مثل Brené Brown يؤكدون أن الثقة والأمان النفسي هما الأساس لبيئة عمل منتجة وابتكارية، وهو ما توفره البصمة الأنثوية.

  1. تعزيز الثقة والتأثير المجتمعي

المرأة الريادية اليوم ليست مجرد مديرة مشروع، بل صانعة تأثير اجتماعي واقتصادي. البصمة الأنثوية تمكنها من خلق تأثير مضاعف يجمع بين نمو الأعمال وخدمة المجتمع. تُظهر الدراسات أن المشاريع التي تُدار بالقيم والوعي الأنثوي لا تنجح فقط ماليًا، بل تخلق مجتمعًا أكثر توازنًا واستدامة.

تحديات واستشراف المستقبل

رغم الإيجابيات، تواجه البصمة الأنثوية تحديات كبيرة، أبرزها قلة التمثيل في مواقع صنع القرار، ونقص التمويل (فالشركات الناشئة للنساء تحصل على 2% فقط من رأس المال الاستثماري عالميًا)، إضافة إلى التحيزات الواعية وغير الواعية.

لكن المستقبل يبشر بتغير إيجابي. فحسب تقرير لشركة Boston Consulting Group، الشركات التي تضم فرق قيادية متنوعة جنسانياً تحقق إيرادات أعلى بنسبة 19% من تلك التي تقودها فرق ذكورية فقط.

الاستفادة من البصمة الأنثوية في ريادة الأعمال ليست ترفًا أو مسألة “عدالة اجتماعية” فحسب، بل هي ضرورة استراتيجية لبناء اقتصاد أكثر مرونة واستدامة وإبداعًا. إنها دعوة للانتقال من نموذج القيادة الأحادي إلى نموذج متكامل، يجمع بين أفضل ما في الطاقة الذكورية والأنثوية.

خاتمة: دعوة للقيادة الإنسانية

كما تقول الخبيرة Brené Brown: “القادة الحقيقيون في القرن الحادي والعشرين هم أولئك الذين يمتلكون الشجاعة أن يكونوا vulnerable، أن يظهروا تعاطفًا، أن يقودوا بقلوبهم بالإضافة إلى عقولهم”. هذه ليست صفات “أنثوية” أو “ذكورية”، بل هي صفات إنسانية ناضجة نحتاجها جميعًا لمواجهة تحديات عصرنا المعقد.

الطاقة الأنثوية الواعية في ريادة الأعمال هي دعوة للعودة إلى الإنسانية، إلى التوازن، إلى الربط بين الربح والقيمة، بين الفرد والمجتمع، وبين الاقتصاد والبيئة. إنها القوة الهادئة التي ستقود التحول الأهم في عالم الأعمال في العقود القادمة.


مصادر موثوقة للقراءة والاقتباس (مباشرة ومن المصدر)

  • Susan Cain — The Power of Introverts (TED Talk). ted.com
  • David Rock — Quiet Leadership: Six Steps to Transforming Performance at Work. HarperCollins
  • Otto Scharmer — Presencing / Theory U (Presencing Institute). presencing.org
  • Brené Brown — Dare to Lead (BRAVING / الثقة المبنية على الضعف). Brené Browns
  • McKinsey & Company — Diversity wins: How inclusion matters (تبيّن العلاقة بين التنوع/السلوك القيادي والنتائج). McKinsey & Company
Scroll to Top